“لم يزل يضرب به المثل في الجمال المفرط مع الصيانة وفي حسن النعمة مع الديانة وفي الفصاحة واستقامة البحث مع الأدب”.يحيى بن العطار متحدثا عن الإمام الكمال بن الهمامصباح الخير
من أمام قبة صاحب “فتح القدير”الإمام الكمال بن الهمام. (ولد بالإسكندرية ١٣٨٨ م. وتوفي بالقاهرة ١٤٥٧ م. ) التونسي- ملاصقا لمسجد بن عطاء الله السكندري وعلى بعد خطوات من قبة بن دقيق العيد. حي الخليفة – القاهرة
من سيواس بتركيا إلى القاهرة. تناولنا في المشاركة السابقة احد علماء السادة الأحناف الزيالعة الصوماليين القادمين من القرن الإفريقي إلى القاهرة
وربما يكون مناسبا ان نلقى الضوء على عالم حنفي آخر قدم من الأناضول إلى القاهرة. هو شيخ الإسلام علامة زمانه الإمام كمال الدين محمد بن الشيخ همام الدين عبد الواحد بن القاضي حميد الدين عبد الحميد بن القاضي سعد الدين مسعود المعروف بالكمال بن الهمام ، السيواسي الأصل ثم المصري المولد ، القاهري الدار والوفاة ، الحنفي مذهبا
أما كتابه الذي اشتهر به وهو “فتح القدير للعاجز الفقير» لابن الهمام الحنفي فهو شرح على كتاب” الهداية في شرح البداية” للمرغيناني السمرقندي في الفقه الحنفي ، وهو من أحسن الشروح وأوسعها وأنفعها إلا أن ابن الهمام توفي قبل أن يتمه ؛ حيث وصل إلى باب الوكالة فأتمه شمس الدين أحمد “قاضي زاده الرومي” أفندي قاضي عسكر رومللي الحنفي في كتابه “نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار”.
وقد تولى جده كجد أبيه قضاء سيواس (محافظة بتركيا الحالية)… وقد ولد الإمام سنة تسعين وسبعمائة (790هـ) – ظنًّا كما قرأه السخاوي بخطه، وقال المقريزي وابن تغري بردي: سنة ثمان أو تسع وثمانين- بالإسكندرية وتوفي أبوه وكان قاضي الإسكندرية وهو ابن عشر أو نحوها ، فنشأ في كفالة جدته لأمه وكانت مغربية خيِّرة تحفظ كثيرًا من القرآن وقدم بصحبتها إلى القاهرة ، فحفظ القدوري والمنار والمفصل للزمخشري وألفية النحو ثم عاد معها إلى الإسكندرية فمكث بها مدة ثم عاد إلى القاهرة واستقر بها .
لازم الشيخ -رحمه الله- الاشتغال بعلوم المعقول والمنقول حتى فاق في زمن يسير وأشير إليه بالفضل التام والفطرة المستقيمة… ولم يزل الشيخ يضرب به المثل في الجمال المفرد مع الصيانة ، وفي حسن النغمة مع الديانة ، وفي الفصاحة ، واستقامة البحث مع الأدب ، وفي الرياضة والكرم ، واستمر يترقى في درج الكمال حتى صار عالـمًا متفننًا علامة متقنًا
درَّس وأفتى وأفاد وعكف الناس عليه واشتهر أمره وعظم ذكره ؛ وأول ما ولي من الوظائف الكبار تدريس الفقه بقبة المنصورية وعمل حينئذٍ إجلاسًا بحضور شيوخه ومنهم ابن حجر العسقلاني ، والبساطي ، والبدر الأقصرائي وغيرهم ، وامتنع الشيخ من الجلوس صدر المجلس أدبًا بعد إلحاح الحاضرين عليه في ذلك بل جلس مكان القارئ ، وتكلم في ذلك المجلس على قوله تعالى: {يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ} فأبان عن يد طولى وتمكن زائد في العلوم بحيث أقر الناس بسعة علمه وأذعنوا له.
ثم تولى مشيخة الخانقاه الشيخونية بعد موت باكير في جمادى الأولى سنة (847هـ) فباشرها بحرمة وافرة وعَمَّر أوقافها وزار معالمها ولم يحاب أحدًا ولو عظُم… ثم تركها وسافر إلى مكة ، وقد قصد المقام بها إلى أن يموت. فلمَّا حصل له ضعف في بدنه عاد إلى مصر
وكان إمامًا علامة عارفًا بأصول الديانات والتفسير والفقه وأصوله والفرائض والحساب والتصوف والنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والمنطق والجدل والأدب والموسيقى وجل علم النقل والعقل. عالم أهل الأرض ومحقق أولي العصر ، حجة ، أعجوبة ، ذا حجج باهرة واختيارات كثيرة وترجيحات قوية.. وحدثت له عوارض بدنية من طول الضعف والأسقام وتراكمهما في طول المدد. وقال المقريزي في عقوده: إنه أنظر من رأيناه من أهل الفنون ومن أجمعهم للعلوم وأحسنهم كلامًا في الأشياء الدقيقة وأجلدهم على ذلك مع الغاية في الإتقان والرجوع إلى الحق في المباحث ولو على لسان آحاد الطلبة ؛ كل ذلك مع ملاحة الترسل وحسن اللقاء والسمت والبشر وحسن الهيئة ونور الشيبة وكثرة الفكاهة والتودد والإنصاف وتعظيم العلماء ، وعدم الخوض فيما يخالف ذلك ، وعلو الهمة وطيب الحديث ورقة الصوت وطراوة النغمة جدًّا بحيث يطرب إذا أنشد أو قرأ ، وله في ذلك أعمال ، وإجادته للتكلم بالفارسي والتركي إلا أنه بأولهما أمهر.
وقد حج غير مرة وجاور بالحرمين مدة وشرب ماء زمزم -كما قاله في شرحه للهداية- للاستقامة والوفاة على حقيقة الإسلام معها. ونشر في مدة مجاورته علمًا جمًّا – رحمه الله ورضي عنه. عاد من مجاورته بعد الحج في رمضان سنة ستين وهو متوعك ، فَسُرَّ المسلمون بقدومه وعكف عليه من شاء الله من طلبته وغيرهم أيامًا من الأسبوع إلى أن مات في يوم الجمعة سابع رمضان سنة إحدى وستين وثمانمائة (861هـ) وصلي عليه بعد العصر في مشهد حافل شهده السلطان فمن دونه ، وقدم للصلاة عليه قاضي مذهبه ابن الديري وكان الشيخ يجله ، كما أنه كان يجل الشيخ وينقل عنه في تصانيفه كشرح الهداية ويروي عنه في حياته ويفتخر بانتسابه إليه
ودفن بالقرافة في تربة ابن عطاء الله ، ولم يخلف بعده في مجموعه مثله في الجمع بين علمي المنقول والمعقول ، والدين والورع والعفة والوقار. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته ونفعنا بعلمه
ملحوظة : وددت نقل القائمة المتميزة لشيوخه وتلاميذه ومؤلفاته ولكني قررت ترك البحث عنها للمهتمين حتى لا تطول المشاركة فتفتر همة القارئ المبتدئ فغاية المشاركات لفت النظر لمن يهتم بطبيعة الحال إلى سير مجهولة للكثيرين منا وعلامات مضيئة في مسار تاريخنا وتراثنا الإنساني والإسلامي – محمد قدري
Leave a Reply